هناك اختلاف بشأن هذه السورة، أهي مكية؟ أم مدنية؟ فالقرائن نفسها تسبب الاختلاف فيما إذا كانت قد نزلت في مكة أو في المدنية، ومن حيث النقل أيضا ثمة أسباب للشبهة. فمن جهة لحن السورة ذات الآيات القصيرة تشبه السور المكية، لأن السور المكية نزلت في بداية بعثة الرسول، وتتميز بآيات التحذير والتذكير والتخويف. أما السور المدنية فأغلبها يبين القوانين والقرارات ولهذا تكون طويلة وتفصيلية، تفتتح هذه السورة بالقسم، وهو قسم عجيب كان من أسباب القول بأنها مكية، وهذا هو اعتقادي الخاص أيضا، بينما يقول آخرون أنها مدنية بسبب مضمونها.
ما أعجب القسم في هذه السورة! ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا﴾ أي أقسم بالخيل الراكضة اللاهثة، والمقصود هو خيل المجاهدين. يقسم بخيل الجند، الخيل التي تخب فوق الصخور والأحجار، إن القرويين من أمثالنا، إذا كانوا قد رأوا الفرس ذا النعل الحديد، على الأخص عندما يتحرك فوق الصخور، كيف ينبعث الشرر من حوافره جراء اصطكاكها بالصخور، ذلك الشرر الناري البارق.
﴿فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا﴾ وهي الخيل التي تبرق حوافرها إذ تركض فوق الصخور، ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ تلك الخيل التي تهجم على العدو عند شروق الصباح، ما يزال يقسم بالخيل، خيل الفرسان. والقسم بخيل الجند، احترام للجند أيضاً، فهم من سرعة الحركة والمبادرة بحيث أنهم يغيرون على العدو قبل أن يتحرك في معسكره، ﴿فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا﴾ كان الكلام قبل هذا على الشرر الذي يوري البرق، فيستدل من ذلك أن حركة الخيل تجري على أرض ذات صخور وأحجار. ثم يقول : ﴿فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا﴾ حيث يكون الهجوم على العدو، فيرتفع الغبار والتراب إلى عنان السماء. طبيعي أن العدو عندما يعسكر، ولا يعسكر فوق الصخور، بل يعسكر في السهل، لذلك فان المجاهدين يأتونهم من طرق جبلية وصخرية حتى لا ينتبه العدو لهم، وإذا بهم فوق العدو، فينهض العدو ويتحرك، فيرتفع الغبار إلى السماء، بحيث لا يبصر المرء ما أمامه.
فيقذف المجاهدون بأنفسهم في ذلك الخضم، ويندفعون إلى قلب العدو. فما الذي تريد هذه الآية أن تقوله؟ لماذا يقسم القرآن بهذه الأمور؟ يريد القرآن أن يقول إنها أمور مقدسة عند الله، فرس الجندي، وحافر فرس الجندي، والغبار الذي يثيره، كلها مقدسة. ذلك التكبير الليلي الذي يصبه فوق رأس العدو، وكمثل الصاعقة يقع على رأس العدو، ومبادرته، كلها مقدسة.
جاء في الأخبار أن هذه الآية قد نزلت في إحدى الغزوات، وتدعى "ذات السلاسل" وهي غزوة وقعت عندما هاجم المشركون المسلمين، فارسل الرسول المسلمين لقتالهم بقيادة أبي بكر مرة، وبقيادة عمر مرة أخرى، واقترح عمرو بن العاص على الرسول أن يلجأوا إلى المكر والخديعة لإنهاء الحرب. غير أن هذا لم يفلح أيضاً. وأخيراً عهد الأمر إلى علي عليه السلام فاختار طريقاً غير مطروق عبر الجبال، فعبروها ليلاً، وعند الصبح، بين الطلوعين، انفضوا على العدو، وقضوا عليه.
وفي اليوم نفسه جاء الرسول إلى المسجد في المدينة -وهي تبعد عن موقع المعركة كثيراً- لأداء الصلاة، فقرأ سورة العاديات بعد سورة الفاتحة، في هذه السورة، كما في سورة الزلزال، تذكير بيوم القيامة، وإيقاظ للشعور بالرجعة إلى الله في الإنسان، تثير هذه السورة في الإنسان روح الجلاد والحرب بشكل عجيب.
وانتبه المسلمون الذين كانوا يصلون مع النبي أنه بعد سورة الفاتحة أخذ يقرأ آيات جديدة لم ترد على لسانه من قبل: ﴿وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (العاديات/1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (العاديات/2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (العاديات/3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (العاديات/4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (العاديات/5) إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (العاديات/6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (العاديات/7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (العاديات/ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (العاديات/9)..﴾ قالوا له بعد انتهاء الصلاة: يارسول الله، لم نسمع بهذا من قبل. إنها المرة الأولى التي نسمع منك فيها هذه الآيات.
فقال الرسول: اليوم نزل علي جبرئيل وأخبرني بأن عليا قد قاد المسلمين من النقطة الفلانية، وأنه سيعود منتصرا. وكان الناس يعلمون أن المسلمين كانوا هناك في محنة، عندما يقسم الإنساني بشيء، يريد أن يقول إنه يحترم ذلك الشيء ويجله. ثم يقول: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود﴾ أي ما أكفر الإنسان بنعمة ربه، فبدلاً من أن يحمد الله على نعمه، يجحد بها. مثل الطفل الذي يريد له أبواه تمام الصحة والشفاء. فيعدان له دواءً أو طعاما، فيرفضه ويريد أن يحطم كل شيء.
يقول المفسرون، وهم على حق، إن آية ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود﴾ إشارة إلى الناس الذين يريدون مهاجمة المسلمين في المدنية، بدلاً من أن يتقبلوا الدعوة التي يدعوهم بها الرسول. فهذه النعمة التي يهبها الله لهم يرفضونها ويحملون على المدينة. أهكذا تشكر النعم؟ ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُود﴾، "كنود" تعنى "كفور" أي الكفر بالنعمة، والتنكر لها.
﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾ يمكن تفسير هذه الآية على وجهين. الأول إن ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ تعني إنه شديد الحب للمال، والثاني هو إنه شديد جداً، أي بخيل، لماذا؟ لأنه يحب المال حبا جماً. وقد عبر القرآن هنا عن المال بالخير، وهو تعبير كثير وروده في القرآن، حيث يعبر عن الثروة بالخير ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (البقرة/180)﴾ أي إن الثروة بحد ذاتها ليست شراً، إنما الإنهماك بها هو الشر. على الإنسان أن يكون حراً. وألا يكون تعلقة بشيء في الوجود إلا بالله. العلاقة قيد وتقيد، مثل الحبل في رقبة الفرس، فيربط بمكان ما في الإسطبل أو بشجرة. على الإنسان ألا يربط نفسه بشيء. إن تعلق الإنسان بالله هو الحرية عينها. لماذا؟ لأن الإنسان كائن غير متناه فما دام الإنسان مع الله، بقي الطريق أمامه مفتوحا، وكلما سار انفتح الطريق أكثر، لو سار إلى الأبد لما انتهى الطريق أمامه.
ولكن المال، بخلاف الأمور الأخرى، يثبت المرء في مكانه، حسب القول السائد، فيوقفه عن التحرك، ويسد أمامه طريق السير نحو التكامل. والقرآن يعبر عن الثروة بالخير، لأن الثروة ليست شرا بذاتها، فلا ينبغي القول بأن الثروة شر، فلماذا يمنحها الله للناس؟ الجواب، كلا، إن الثروة ليست شرا، بل تعلقك بها، حب المال الذي فيك (وهو الحب والعلاقة) هو الشر، فعليك إلا تطوق رقبتك به.
ثم إن الله قد خلق في الإنسان حب الخير حبا مطلقا. والخير المطلق هو الله، فأنت قد تركت الخير المطلق، وجئت تتمسك بشيء محدود لا ينفع كوسيلة، ونسيت الغاية، ﴿أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (العاديات/9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (العاديات/10) إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (العاديات/11)﴾ أي ألا يعلم الإنسان أنه سيبعث، وأن ما في القبور يستخرج، وينفي، ويكشف عما في دخيلة الإنسان وباطنه؟ ألا يعلم الإنسان ما سوف يحدث عندئذ؟ ألا يعلم أن هذا ما ينتظره؟ ﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (العاديات/11)﴾ فإذا لم يكن يعرف كل ذلك، فليعلم إن الله عالم وخبير، ويعرف كل شيء.[center]